(1)
أعلم أن العنوان بهذه الصيغة يوحي بأنه سيكون قصيرا؟
لماذا؟
لأنه معلوم أن الأديب يستمد مشروعية وجوده وماهية ذاتيته من الأدب؛ فلذلك سيكون الأدب هو السيد عنده، وبهذا ينتهي المقال.
فهل هذا صحيح؟ هل الأمر بهذا الوضوح الذي يجعل القضية منتهية؟
لا أظن ذلك!
لماذا؟
لأن هذه قضية من قضايا الثنائيات.
كيف؟
لها طرفان: أولهما يرى السيادة للتاريخ بصدق حوادثه وواقعية أحداثه، وعلى من يرغب التعامل معه أن يلتزم منهجه وقواعده. وآخرهما يرى أن السيادة للأدب؛ فالأديب لا يكتب تاريخا، وعلى من يطلب التاريخ أن يلتمسه في كتب التاريخ.
لهذا أنصار من التاريخيين والأدباء وغيرهما، وللآخر أنصار من التاريخيين والأدباء وغيرهما.
هذه الثنائية تجعل المرء مضطرا إلى الانتماء إلى أحد الاتجاهين من دون توسط، فهل الأمر كذلك؟
لو عدنا إلى تراثنا وجدنا القصاص موجودين فيه منذ القدم، وكانوا يُتركون؛ فهل اختلف الأمر الآن حتى تثار هذه القضية؟
نعم.
كيف؟
(2)
قديما كانت الدولة قوية، وحركة العلم قوية؛ فمصطلح الحديث وضوابطه فاعلة وعلم أصول الفقه قوي، و... إلخ، وكان هدف القصاص الترفيه والوعظ.
أما الآن فإن الأدب قد دخل الفنون الأخرى التي تصل إلى الناس في بيوتهم من تلفزيون وإذاعة مسموعة وصحافة و... إلخ؛ مما يجعله أداة في تغيير التصورات والفكر والسلوك؛ مما يؤكد دوره الاجتماعي، وأنه لا صحة لمقولة: "الفن للفن". وقد اشتهرت عبارات مثل "إذا أردت أن تعرف أمة فابحث عن أدبها"، ويقصدون به الأدب المكتوب الذي هو الرواية والقصة والمسرح لا ما تلتزمه الأمة من قيم ومناهج وأخلاق.
وشاع في الأمة الابتعاد عن العلم، واستسهال الحصول على المعلومة لا سيما المعلومة التاريخية مهما كان عصرها وزمنها؛ فقد صارت الأعمال الدرامية المصدر الوحيد لمعرفة الكثيرين عن تاريخهم.
وقوي سلطان الأدب والأديب، وانحصر دور المؤرخ في المعاهد العلمية، فهل بعد ذلك نظل على تلك الرؤية التي تعطي قصاص اليوم المسمَّوْن بالأدباء الحرية في تناول التاريخ كما يرونه؟
(3)
بينت في مقال سابق أن من يتناول التاريخ أدبيا عليه أن يقرأ ويعيد القراءة حتى يبدو متخصصا، وأن يكون له هيئة استشارية متخصصة.
لماذا؟
لأن كتابته ستكون بنت ما يعتمل داخله من علم وثقافة، فلو لم يتشبع بثقافة المرحلة التاريخية التي يتناولها فلن يكون أدبه إلا مزيجا من واقعه وأعرافه التي يعيشها مع نتف من حقيقة تلك المرحلة؛ مما ينعكس سلبا على القارئ والمشاهِد فيما بعد، وتشويها في تصور تلك المرحلة بأشخاصها وأعرافها.
كيف؟
إن من يشاهد معظم الأعمال الدرامية التاريخية يداخله إحساس بعدم غرابة ما يراه، لا لأن الأعراف واحدة بين زمنه وزمن الأحداث ولكن لأن الكاتب نسج الأحداث على وفق الزمن الحاضر، لا سيما في زمن الصحابة الذي يُستمد منه التشريع؛ مما يجعل الأمر غير مقتصر على الأدب فقط، بل يدخل فيه أشياء أخرى تضع السم في العسل.
وصار هذا منهجا بغض النظر عن الفئة المستهدفة من هذا الأدب.
كيف؟
(4)
قد يبدو تعبير "الفئة المستهدفة من هذا الأدب" غريبة على الأسماع؛ لأن الأدب سلعة تنتج ويتلقفها من شاء، لكنني ما قصدت مطلق الأدب بل قصدت الأدب الممنهج.
ما الأدب الممنهج؟
إنه ذلك الأدب المختار من وزارة التربية والتعليم ليقرر على التلاميذ والطلبة، ويزداد الأمر خطورة إذا كان ذلك الأدب المختار مقررا على ناشئة صغار.
كيف؟
في القصة المقررة على الصف السادس الابتدائي المعنونة بـ"السيدة خديجة رضي الله عنها"، يظهر ذلك جليا في مواقف ومشاهد كثيرة أجتزئ منها بأمثلة دالة، لعلها تعمل على تصحيح الأمر بإلغاء تدريسها.
(5)
أورد المؤلف الأستاذ أحمد محمد صقر في طبعة 2009/2010 التي أعدها تربويا الأستاذ مصطفى كامل مصطفى مستشار التربية الدينية نماذج لهذا الإخلال التاريخي، منها:
أ- أورد ص12 في حوار بين السيدة خديجة وأبيها خويلد:
"سارع خويلد قائلا:
- الربح الحلال طبعا يا خديجة؛ فالربح الحرام لا يدوم؛ إن ناله صاحبه مرة فلن يناله أخرى، ولن ينفعه ما ربح، بل يسلط الله عليه ما يضيعه جميعا، ينسفه ولا يبقي منه باقية، وهو لا يذهب وحده بل يأخذ في رجليه سواه من الربح الحلال".
وأسأل بعيدا عن ضعف اللغة التي لا تليق بواحد من العرب أهل اللغة: هل هذا كلام رجل من الجاهلية؟ أم هل هو كلام المؤلف للتلاميذ؟ أم هل هو استحضار لصورة ممثل ينصح في فيلم أو مسلسل؟ أم هل هو استحضار للمثل العامي "حط الحرام على الحلال عشان يزيده مشي الحرام وخد الحلال في إيده".
ب- وأورد ص15:
"كان اليوم بديعا رقيق النسيم، قضته مكة كلها في حركة دائبة بين بيت خويلد حتى أقبل المساء فعقد القران بجانب الكعبة، ثم طاف الناس حولها شاكرين داعين، وانطلقت الزغاريد من بيت خويلد".
وأسأل: هل تعرف العرب عقد القران؟ أم هل هذه ثقافة المؤلف التي أخذها من بيئته وثقافته المتأثرة بالنصرانية؟ وهل انطلاق الزغاريد مظهر فرح عربي أم مظهر فرح شعبي الآن؟
ج- وأورد ص42:
"ثم انصرفت مسرعة ودخلت على خديجة ودخلت عليها فائضة السرور، وزفت إليها البشرى بقبول محمد، فقبلتها خديجة وضمتها مرات، ثم نهضت إلى أحد مخازنها واختارت بعض الهدايا الثمينة وقدمتها إليها في سرور".
وأسأل: هل هذا فرح العرب؟ أم هل هو تمثل فرح ممثلات الأفلام وكان ينقصه أن يقول: ودارت حول نفسها كالفراشة؟
فريد البيدق