نشـــأة اللغـــــــة العربيـــة
ودلالة أصواتها فيزيائياً
إن موضوع نشأة اللُّغة من المواضيع التي تناولها الباحثون قديماً وحديثاً، وأسهبوا فيها كثيراً، وأسفر عملهم ذلك عن بضعة آراء، من أهمها:
1 ـ التّواضع والاصطلاح في تسمية الأشياء دون أي علاقة منطقية بين الشّيء واسمه. ويكون من خلال اجتماع حكماء القوم واتِّفاقهم على اسم معين يتم إطلاقه على الشّيء.
2 ـ اللُّغة وحي من الله، وقد تم تعليم الإنسان الأول أسماء كل شيء.
3 ـ كانت نشأة اللُّغة نتيجة تفاعل الإنسان مع الأحداث وضرورة تواصله مع بني جنسه، وحاجاته لتخزين المعلومات، فولدت اللُّغة بصُورة تراكمية خاضعة لعامل الزّمكان وحاجة الإنسان.
لنناقش الآراء الثّلاثة:
الرّأي الأول:
إن عملية الاجتماع لاختيار اسم لشيء معين تدل على وُجُود كلمات معلومة بالنّسبة للقوم، أي عندهم لغة يستخدمونها، وبحثنا هو عن نشأة اللُّغة، وليس عن استخدامها في تسمية الأشياء، غير أن أساس اللُّغة هو أفعال وليس أسماء. فهو رأي ضعيف جدَّاً.
الرّأي الثّاني:
انطلق القائلون به من مسألتين:
المسألة الأولى: وُجُود نص قرآني يقول: [ وعلم آدم الأسماء كلها ]فعدُّوا هذا النّص دليلاً على أنَّ اللُّغة وحي من الله إلى الإنسان الأول(1)، وهذا الأمر في حقيقته يقتضي أن كلمات اللُّغة كلها قد علمها واستخدمها الإنسان الأول! أي أنَّ الإنسان الأول كان سابق في لغته عن الواقع الذي يعيشه، فهو يعرف أسماء كل ما كان وسيكون دون وُجُود لهذه الأشياء في الواقع، ودون وُجُود لدلالتها في ذهنه ضرورة، وإلا قام بتنفيذها وإخراجها إلى أرض الواقع واستفاد منها، ويقتضي أيضاً قيام الإنسان الأول الذي أوحيت إليه اللُّغة بتلقينها ألفاظاً دون معانٍ لأولاده، وهكذا تَسْتَمِرًّ عملية التّلقين من جيل إلى آخر. وهذا التّصُور لنشأة اللُّغة هو وهم مخالف للواقع تماماً حيث أنَّ اللُّغة هي نتيجة تفاعل الإنسان كجماعة وكمجتمع، وتراكم ذلك وتناميه ضمن زمن ليس بالقليل، فاللُّغة لم توجد في زمن واحد، ولم تكن نتيجة تفاعل إنسان واحد، وكذلك لم تكن نتيجة تفاعل مجتمع واحد، بل تفاعل مجتمعات بصُورة تراكمية متنامية حسب احتياج كل مجتمع وسعة تفكيره. ناهيك عن أن دلالة النّص القرآني ظنية الدّلالة لاحتماله أكثر من مفهوم وذلك حسب منظومة الباحث التي يستخدمها في البحث(وإحكامها فقالوا باستحالة أن تكون اللُّغة من صنع الإنسان، وذلك لانبهارهم بها وعدم مشاركتهم في عملية ولادتها وبنائها، فلقد وصلت إليهم بناء متكاملاً محكماً، ونزل القرآن عربي اللُّغة، والقرآن نص خاتمي ومعجز، فوصلوا إلى أنه لابُدَّ أن تكون اللُّغة التي تحتوي القرآن هي من المصدر ذاته. أي من الله تبارك وتعالى.
أولاً: إن اللُّغة العربية سابقة في وُجُودها عن النّص القرآني، وبالتّالي لا علاقة للنّص القرآني باللُّغة العربية ابتداءً.
ثانياً: اللُّغة لم توجد ابتداء على صُورتها الحالية دفعة واحدة، وإنَّما وجدت بصُورة تراكمية خلال فترات طويلة من الزّمن ساهمت المجتمعات الأولى في عملية ولادتها وبنائها، فهي ليست من صنع إنسان بعينه، بل يستحيل عليه أن ينشىء هذا الصّرح العظيم، فهي نتيجة تلاقح وتفاعل عقول المجتمعات مع الواقع بصُورة تراكمية. فكانت اللُّغة ظاهرة اجتماعية، ونتيجة تفاعل الإنسان مع الواقع. ومثل ذلك مثل سائر العُلُوم كلها، فقد بدأ الإنسان من نقطة الصّفرF[ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ]وبدأ الإنسان كمجتمع في رحلة التّعلم منذ أن تم النّفخ فيه من روح الله عز وجل، فتفعل عنده السّمع والبصر والفؤاد وسار في الأرض لينظر كيف بدأ الخلق. فلو جاء أحد الآن وهو لا يدري عن نشأة علم الرّياضيات شيئاً ونظر إلى عظمته ودقته وسعته الحالية لما صدق أبداً أن ذلك من صنع واكتشاف الإنسان، لأن من طبيعة الإنسان عندما ينظر إلى شيء يريد أن يحكم عليه ينطلق من صفة العجلة، ويهمل عامل الزّمان وصفة التّراكم المعرفي للمجتمعات، ويحسب أن ذلك الصّرح الرّياضي العظيم هو من بناء إنسان واحد وفي لحظة واحدة فيحكم مُباشرة باستحالة أن يصدر ذلك من إنسان، ولابُدَّ أن يكون هذا العلم الرّياضي من جهة عظيمة غير الإنسان. وما ينطبق على العُلُوم ينطبق على علم اللُّغة العربية تماماً.
فالإنسان كائن عظيم بما وهبه الله عز وجل من نعمة العقل والتّفكير والحُرِّيَّة، وجعله خليفة في الأرض [ ولقد كرمنا بني لآدم ] [ إني جاعل في الأرض خليفة ]وقديماً قيل: إذا عُرِفَ السّبب بطل العجب. فاللُّغة العربية هي نتيجة تفاعل الإنسان عقلاً وتفكيراً مع الواقع وتواصله مع بني جنسه وتراكم هذه المعلومات وتواصلها مع المجتمعات اللاحقة، فكل مجتمع يضيف تفاعله في علم اللُّغة لما سبق إلى أن تم بناء نظام وأساس اللُّغة واكتمال الأبجدية الصّوتية التي هي بمثابة اللّبنات والعناصر الأساسية التي تم استخدامها في بناء اللُّغة.
والقرآن نزل مستخدماً اللُّغة العربية ليوصل إلى النّاس مضموناَ معيناً من الدّلالات، والكلمات التي استخدمها الله في صياغة النّص القرآني هي ذات الكلمات التي يستخدمها الإنسان في كلامه مع الآخرين، والمعجزة في النّص القرآني كانت في طريقة استخدام الكلمة وتركيبها مع أخواتها بصُورة مطابقة لمحل الخطاب من الواقع تماماً وتغطي الحدث من بدايته إلى منتهاه حيث لا يقبل النّص أي زيادة في المبنى مع مرور الزّمن وتقدم العُلُوم عند الإنسان، ومن هذا الوجه نقول: النّص القرآني صالح لكل زمان ومكان. وتجلت تلك الحقيقة في ثبات النّص كمبنى وتحركه كمعنى ضمن معطيات دلالات المبنى ومعلومات الواقع وكل ذلك على محور الثّابت والمتغير.
لذا فإن القول بأن نشأة اللُّغة العربية وحي من الله عز وجل هو رأي ضعيف جدَّاً، وبعيد عن الصّواب والبحث العلمي، وسنثبت ذلك أثناء تكلمنا عن الرّأي الأخير.
الرّأي الثّالث:
إن اللُّغة العربية هي نتيجة تفاعل الإنسان كمجتمع مع الواقع، وهذا الرّأي هو الصّواب من بين الآراء المذكورة. لنر ذلك من خلال الشّرح.
أول أمر ينبغي العلم به هو العلم بالإنسان ككائن حي له غرائز وحاجات نفسية وجسمية(1)، ومن غرائزه النّفسية غريزة التّعلم التي تدفعه إلى البحث والتّقصي عن حقيقة حدوث الأمور، وحتَّى تكون عنده القدرة على التّعلم ينبغي أن يملك أدوات التّعلم ودافع التّعلم، وهذه الأمور هي من الفطرة التي فطر الله النّاس عليها، فيُوجد انسجام وتكامل بين فطرة الإنسان والواقع الذي هو من خلق الله، فقد جعل الله الإنسان يتناغم وينسجم عقله وتفكيره وجهاز النّطق عنده مع الواقع تماماُ. فالإنسان الأول كجنس هو إنسان فطري ملتصق بالواقع أكثر من إنسان اليوم، ويتفاعل مع بيئته بصُورة انسجامية وتناغمية ويتنبه إلى تغيرات الطّبيعة وتقلباتها، فهو جزء لا يتجزأ من الطّبيعة، فكان واقعاً تحت تأثير وهيمنة الطّبيعة عليه بعكس إنسان المدنية والمعاصرة فهو يعيش حياة مادِّيَّة بين أربع جدران تسد حواسه من أن تتفاعل مع الواقع بل ويحارب الطّبيعة ويقوم بتلويث البيئة ويعيش مخالفاً لفطرته معادياً لبيئته.
أما الإنسان الأول كجنس فهو ربيب الطّبيعة وابنها البار المتكيف مع نظامها والملتصق بها كالتصاق الولد بأمه، يأخذ كل شيء منها. فلما بدأ الوعي عند الإنسان صار يحاكي أصوات الطّبيعة والكائنات الأخرى ويفهم لغتها التي هي الظّواهر الطّبيعية وذلك من خلال تفاعله الفيزيولوجي الإيجابي والسّلبي في استخدام جهاز النّطق عنده، وتفاعله النّفسي شُعُوراً وعقلاً فبدأ بإصدار الأصوات كفعل ورد فعل، وذلك بالتّعلم من الطّبيعة ذاتها، فأخذ صُور صوتية للظّواهر الطّبيعية، فكانت هي بداية ولادة الأحرف عند الإنسان الأول، وتراكم ذلك التّفاعل في المجتمع وأخذ بُعْداً اجتماعياً لتواصل ونقل الخبرات من جيل إلى آخر، فكان الإنسان الأول كجنس يتواصل من خلال التّصويت الذي هو في حقيقته صُور صوتية للظّواهر الطّبيعية، ونتيجة تراكم هذه الصّور الصّوتية أوجد أساساً للمجتمعات اللاحقة لتكوين اللُّغة، وذلك من خلال استخدام هذه اللّبنات والعناصر الأولى (الصّور الصّوتية) بضم صوت إلى آخر نتيجة علاقة بينهما في الواقع بصُورة متتابعة كظاهرتين، فنشأت الصّورة الصّوتية المؤلفة من مقطعين من الصّوت كبداية لنشأة اللُّغة وأساس لبنائها، وكان ذلك في مرحلة التّعقل والتّفاعل الإنساني وعندما اشتدت الحاجة وكثرت العلاقات الجماعية وتعقدت تمت عملية ولادة المجتمع، وبدأ الإنسان في التّفكير مستخدما اللُّغة كحقل ووعاء ومجال له لأنَّ الإنسان لا يفكر دون لغة، فاعتمد على الأساس الفطري الذي وصل إليه نتيجة تعقله وتفاعله مع الواقع الذي هو المقاطع الصّوتية وما ركبه منها من ثنائيات بصُورة فطرية وعقلية، فقام بتوسيع هذه الكلمات الثّنائية فطرة وتفاعلا وأضاف لها صوتا آخر لتصير ثلاثية الأصوات، وبذلك بدأ التّفكير عند الإنسان بصُورة متنامية وصاعدة مع توسع اللُّغة طرداً بحيث كلما زاد التّفكير توسعت اللُّغة بناءً وكثرت مفرداتها لتحتوي مادَّة التّفكير إلى أن وصلت إلى مستوى عظيم من البناء واكتملت من حيث النّظام الذي يحكم اللُّغة. فولادة اللُّغة من حيث الأساس إنَّما هي أمر فطري وظهر ذلك من خلال تفاعل الإنسان وتعقله ووصل إلى المقاطع الصّوتية (الأبجدية) والكلمات الثّنائية، وعندما بدأ التّفكير عند الإنسان كمجتمع ظهر ضرورة توسع اللُّغة وبنائها فظهرت الكلمات الثّلاثية تباعاً في كل مجتمع حسب مستواه المعرفي لتكون الوعاء والحقل لعملية التّفكير.
فولادة اللُّغة أساساً هي في مرحلة التّعقل والتّفاعل الفطري في المرحلة الأسروية الجماعية، وذلك كصُور صوتية ثنائية للظّواهر الطّبيعية أي لحركات الطّبيعة لأنَّ الواقع قائم على قانون الحركة، واللُّغة كونها انعكاس فطري له فأساس كلماتها هي أفعال، أما توسع وبناء اللُّغة فكان متزامنا مع بدء مرحلة التّفكير والفاعلية الاجتماعية. كصُور وظيفية أو حالية للأشياء أضيفت للصّور الصّوتية ليكونا مع بعضهما بعضاً نظام اللُّغة للأجيال اللاحقة. ودراسة هذه المراحل التي مرت بها اللُّغة العربية أمر مشاهد في الواقع الحالي من خلال دراسة مراحل اكتساب اللُّغة عند الأطفال، والقيام بقياس الغائب على الشّاهد.
خلاصة نشأة اللُّغة:
إن ا&a">، وهذه هي المرحلة التّعقلية السّابقة عن وُجُود اللُّغة، وتكون لأفعال النّفس من حيث الشُّعُور بالحزن والسّرور، والضّحك والبكاء، والحب والكره، فهذه الأمور لا تحتاج إلى لغة ومفردات حتَّى يعقلها الإنسان في نفسه، فهو يحب ويكره دون لغة. وكذلك ربط الأحداث بمسبباتها المُباشرة الواضحة أيضاً لا تحتاج إلى مفردات ولغة حتَّى يدركها الإنسان، فالإنسان يقوم بتعقل الأحداث بصُورة مُباشرة. نحو إدراكه أن فعل الطّرق يحتاج إلى طارق، أو لابد من وُجُود طارق يقوم بالفعل، وذلك مُرتبط بصفة التّمييز والتّحليل والتّركيب والرّبط، التي هي من صفات التّعقل خلقاً نتيجة النّفخة من الرّوح فيه، وهذا الإدراك العقلي لايحتاج إلى تفكير (دراسة وتجربة وتحصيل معلومات) فهو مجرد فقه للأمور على ظاهرها.
إذاً فعل التّعقل الذي ينتج عنه الفقه والإدراك هو سابق عن ميلاد اللُّغة، وولادة اللُّغة فعل لاحق لعملية التّعقل، وهذه الولادة للُّغة ظهرت من خلال إصدار أصوات فطرية بمثابة صُور حالية أو صوتية للأشياء والأحداث، التي تجري من حول الإنسان أو معه، وبناء على تفاعل الإنسان، وتراكم أفعاله، وصل إلى تدشين ما يسمى أساس اللُّغة من حيث الأبجدية الصّوتية، وتركيب الكلمات ذات المقاطع الثّنائية بصُورة فطرية، وفي هذه المرحلة لم تكن عملية التّفكير قد بدأت عند الإنسان، لأنَّ التّفكير غير التّعقل، إذ التّفكير عملية دراسة وتجربة وفاعلية وحصول على أدوات يتم استخدامها في تسخير الأشياء للإنسان، والتّفكير كوظيفة هو نتاج لولادة المجتمع، فعندما وُلِدَ المجتمع الإنساني في الجنس البشري زامن ذلك عملية بداية ظهور التّفكير عنده كضرورة اجتماعية، وهذا التّفكير لا يمكن أن يتم إلا ضمن حقل ومجال يستخدمه الإنسان في عملية الدّراسة، وجدولة المعلومات وحفظها، فكانت اللُّغة الفطرية ذات المقاطع الثّنائية هي الأساس والحقل الذي استخدمه الإنسان في عملية التّفكير، فاستجابت له نتيجة تفاعله معها فتم توسعها وظهور كلمات ذات مقاطع ثلاثية، وصارت بمثابة أوعية أو جسم يمثل أفكار الإنسان، وارتبطت مع الفكر والتّفكير بعلاقة جدلية، كلما توسع التّفكير توسعت اللُّغة معه لتسعه. وصارا كلاهما مظهر من مظاهر المجتمع والتّقدم والتّطور ونتج عن التّفكير صفة الفاعلية والعلم ليضافوا إلى عملية التّعقل التي نتج عنها الفقه والتّفاعل ليصير بين التّعقل والتّفكير علاقة جدلية، التّعقل يوصل إلى التّفكير، والتّفكير ينزل المعلومات إلى التّعقل(1).